محمد حسنين هيكل.. ذاكرة عرب

بوفاة هيكل يفقد العرب ذاكرة حقبة استثنائية في تاريخهم الحديث، ذاكرة عمّرت أطوَل من الحقبة نفسها وبقيَت حيّة بعد اندثارها حتى كاد لا يتبقّى منها إلا هو، ذاكرة تمثّلت في هيئة كاتب صحافي مُخضرم وسياسي ومُنظِّر استراتيجي عربي استمرّ إلى نهاية عمره في فرض هالة من الهيبة المرجعية وموثوقية لا تتزعزع. بأيقونيّة وجهه التي كانت بلاغة تعابيره تصِف التقلّبات العاطفية في ما يحكيه، وتلويحات يديه ترسم الفواصل، ونبرات صوته تضع النقاط وتستهلّ الجُمَل، واسترساله الذي يوحي بأنّه بَرْزَخٌ ناطقٌ بين ماضٍ ومستقبل، كان نَصّاً بشرياً مُشْبِعاً كلّما تَحدّث، وكلّما تَحدّث قُرِئ باستغراق، وكأنّما استماع عبدالناصر إليه حَتَم جدارته بأن يستمع إليه الجميع.

كان ذاكرةً دوّنت نفسها بغزارةٍ تُضاهي ما تكدّس لديه من وقائع ووثائق وتجارب وعلاقات، فكان الموَثِّق وكان الوثيقة. ولمّا مات خُتِم التدوين، لِيَلتحق هو بسياق التاريخ.

محمد حسنين هيكل أذهل الأجيال بذاكرته الجبّارة التي صمدت إلى انتهاء حياته في مُقتبل التسعينات، ربّما لأنّه وعى أنّ مهمّته المصيرية كإنسانٍ التقى فيه هذا المكان بهذا الزمان هي أن يُجسّد ذاكرة حقبة ثمينة يجب الحفاظ عليها واستثمارها تجاه مستقبل أسمى، فتماهى مع ذاكرته إلى أن استحوذت عليه، وكرّس كلّ عزمه ليُغذّيها ويُبقيها مُتّقدة إلى أبعد نقطة قُدُماً، بطاقةٍ لا يمكن أن يولّدها إلا وفاء لروح تلك الحقبة أو إيمان بوعدها أو كلاهما. ربّما امتدّ عمر هيكل تشبّثاً بالذاكرة التي تقمّصته، وتصميماً على تحقيق الحدّ الأقصى من مغزى حياته: ذاكرة رحلةٍ غدت محطّةً في تاريخ العرب، مات حريصاً على أن لا تتبدّد.

About Manaf

أنفاسك حياتك Your breaths are your life عقلك حرّيّتك Your mind is your freedom وجهك عزّتك Your face is your dignity ويدك قوّتك And your hand is your power
This entry was posted in Uncategorized. Bookmark the permalink.

1 Response to محمد حسنين هيكل.. ذاكرة عرب

  1. ابو فرات says:

    ذاكرة كاذبة خاطئة. .اقترنت بأسوء حقبة تعرض خلالها العالم العربي والإسلامي إلى هزيمة من أعداءه لا تزال تداعياتها تنهش في موارده وصموده. ..عموما أفضى إلى ما قدم. ..وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. .

Leave a comment